حلق مشروع الوحدة الأوروبية منذ بدايته بجناحين قويين، الأول: حلف الناتو، الذي وضع أوروبا الغربية، بأكملها تحت المظلة الأمريكية، وضمن استراتيجية عسكرية واحدة. أما الآخر، فهو مشروع مارشال للإعمار، الذي انطلق بعد الحرب العالمية الثانية، واتخذ تنفيذه طابعا أفقيا، شمل معظم المناطق التي تضررت بسبب الحرب.
بمعنى أن نتائج الحرب هي التي وضعت اللبنات الأولى لانطلاق مشروع الوحدة الأوروبي، لكن هذه النتائج ذاتها، وقفت سدا منيعا يحول دون تحقيق التكامل الاقتصادي العربي. فقد أصرت القوى الاستعمارية التقليدية، وفي مقدمتها إنجلترا وفرنسا، على أن يأتي استقلال معظم البلدان العربية، التي تحت قبضتها، محكوما بمعاهدات واتفاقيات وبروتوكولات، تضمن تبعيتها لها، وتحول دون تحقيق تكامل اقتصادي عربي.
هذا التقرير لا يعني أن مشروع الوحدة الأوروبي لم يمر بمصاعب ومعوقات شأنه في ذلك شأن المشاريع التاريخية الكبرى. كما أنه لا يعني أننا نلقي بتبعة فشلنا على الخارج. فالمشاريع لا تحقق مكانها فجأة، بل تأخذ مكانها في سياق تاريخي متصل. إنها نتاج عمل مثابر، يتراكم ويضيف باستمرار إلى ما تحقق. ومن الطبيعي أن تعترض الرحلة مصاعب ومعوقات، ربما تؤدي إلى بطئها أو تراجعها. لكن الإصرار والإيمان بالهدف، يتكفلان بالتغلب على المعوقات، وتحويل الحلم إلى واقع.
وضع الوحدة الأوروبية يقترب من هذا التوصيف. فقد استمرت خطوات السير على طريق تحقيقها، أكثر من نصف قرن. ولا يزال الأوروبيون يتطلعون إلى آفاق مستقبلية أوسع من الشراكة. وكانت محطة الوحدة الأوروبية الأولى، هي تبني مشروع فرنسي جريء، استهدف وضع الفحم والصلب، تحت سيطرة أوروبية مشتركة. وكان ذلك متسقا مع الحاجة لإنجاح مشروع الوحدة. إضافة إلى أن كلا القطاعين، يرتبطان بصناعات اقتصادية أساسية أخرى، بما يغري الفعاليات الاقتصادية الأخرى، بمختلف أشكالها، على الالتحاق مستقبلا بمشروع الشراكة، وبالتالي التسريع بالوحدة.
كان طبيعيا أيضا، أن يمر مشروع الاتحاد الأوروبي بمشكلات ومعوقات، بسبب التراكمات التاريخية السلبية، وأيضا بسبب الحقائق التي أفرزتها الحرب الكونية الثانية. وإفرازات النظام العالمي الجديد الذي تشكل بعد الحرب. فقد برز قلق فرنسي من تنامي الدور الألماني، بعد اشتعال الحرب الباردة. وقد شاطر عدد من البلدان الأوروبية من ضمنهم بلجيكا وهولندا، وبقية الدول التي وقعت تحت القبضة النازية، القلق الفرنسي. أما الحقائق التي أفرزتها الحرب الكونية الثانية، فقد قيدت ألمانيا، بعدة قيود تحد من قدرتها على الحركة، وهي قيود ارتبطت بهزيمة النازية واستسلامها العسكري أمام الحلفاء. وهناك أيضا انشطار أوروبا إلى كتلتين، مختلفتين في أنماطهما السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، كتلة رأسمالية في الغرب من القارة الأوروبية، وكتلة اشتراكية في شرقها. أما فيما يتعلق بإفرازات النظام الدولي، الذي برز بعد الحرب، فأهمها النزعة الاستقلالية، لدى فرنسا الديغولية، والتماهي شبه التام في السياستين الأمريكية والبريطانية.
هذه الحقائق مجتمعة كانت السبب في تأخر مسيرة الاتحاد الأوروبي، وإعاقة انطلاقته بالسرعة المأمولة، وتأخير إعلان قيام المواطنة الأوروبية، لما يقترب من نصف قرن، تم تجاوزها في النهاية، بالتصميم والإرادة، ووعي قادة أوروبا وشعوبها، لدور الكتل الإنسانية الكبرى في صناعة القوة، بكل تشعباتها.
من بين المصاعب التي اعترضت مسيرة الاتحاد الأوروبي، قضية توزيع الكوتا، المعبرة عن ثقل كل دولة في الاتحاد، تبعا للكثافة السكانية، والقوة الاقتصادية. وكانت هناك مسألة توزيع تكاليف الميزانية بين الأعضاء، وحصة كل دولة فيها. وقد تحملت فرنسا وألمانيا العبء الأكبر من الميزانية، بما رتب لهما حقوقا مضافة. واستمر ذلك حتى يومنا هذا. وهناك أيضا توزيع المكاسب والمنافع، وموقع المراكز الاتحادية.
هذه القضايا مجتمعة أو فرادى، حاضرة بالتأكيد لدينا، نحن العرب، وقد بقيت ولا تزال معوقة لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي. وقد كانت بعض هذه القضايا، حاضرة بقوة، في مشروع مجلس التعاون لدول الخليج العربي.
فكما كان البون شاسعا، بين دول الاتحاد الأوروبي، من حيث الكثافة السكانية والحجم والقوة الاقتصادية، فإنه كذلك بالنسبة للبلدان العربية. فمن حيث الكثافة السكانية، هناك بلدان عربية، يتجاوز تعداد سكانها الأصليين 80 مليون نسمة، كما في حالة مصر، وبلدان عربية أخرى، لا يتجاوز سكانها مليون نسمة، كما في حالة البحرين وقطر وجزر القمر. وفي الحجوم، هناك دول تقترب في اتساعها من حجم دول أوروبا مجتمعة: السودان والسعودية والجزائر. وهناك دول ينطبق عليها وصف المدينة الدولة city state نظرا لصغر حجمها. أما بالنسبة للأوضاع الاقتصادية، فإن ناتج الدخل الوطني للفرد يتجاوز عشرة أضعاف عند مقارنته بالدخل الوطني للفرد في بلدان عربية أخرى.
وينسحب البون الشاسع بين الأقطار العربية، عند مقارنتها مع بعضها بعضا، في وفرة التعليم والعلاج المجاني، وأيضا في المستوى العلمي والثقافي. كما هو الفرق شاسع أيضا في المجالات التي قطعتها بعض الدول العربية من حيث استكمال بنيتها التحتية، والمضي بشكل حثيث في تنفيذ خطط التنمية. ويترتب على ذلك صياغة خطط عملية، تسهم في لحاق البلدان العربية المتخلفة، بقاطرة التطور. هناك أيضا الفروق في الأنظمة السياسية والاقتصادية، بما يستتبع ذلك من فروقات في سياسة الاستيراد والتصدير، وسعر التعرفة الجمركية. ولا شك أن لهذه الفروقات انعكاسات موضوعية طاردة على موضوع التكامل الاقتصادي العربي، ما لم تتم معالجتها. وقد أدرك القادة العرب، مخاطر الأزمات الاقتصادية على المستقبل العربي، وكان انعقاد مؤتمر القمة الاقتصادي في الكويت، ومؤتمر القمة الاقتصادي في شرم الشيخ الذي عقد أخيرا، مؤشرا كبيرا على هذا الوعي. وسنحاول في حديث قادم مناقشة هذه التطورات وتحليل المعوقات التي يتعرض لها التكامل العربي، وطريق الخروج منها، بما يسهم في تعضيد هذا المشروع، وتحويله إلى أمر واقع.