لقد اختصرت أحلام قرن من تاريخ العرب
* أكتب لك يا سمو الأمير معترفا بعجزي طيلة الأيام الماضية عن الاحتفاظ بفضيلة الخجل المانع لإظهار العواطف بعد أن استفزتني المفاجآت السعيدة القادمة من قطر فأحدثت في داخلي زلزالا، فالصحراء تحولت فجأةً إلى قصر.
* أكتب لك من صفحة بيضاء لم يكن فيها قلمي على مدى ربع قرن من وجودي في بلاط صاحبة الجلالة سائلا من أجل مسئول، أو مسالا من أجل مسألة. فأنا لا أكتب لك إلاّ عمّا أحبّ. ولا أحبّ إلاّ ما يُفحم الكتابة تحليقا خارج الأقفاص والبروتوكولات.
* أكتب لك من باب الشغف والتطرّف بلا صَخَبٍ ولا نَفْخ، لأحلق معك كمواطن عربي على مستوى الحدث البهيّ، تحليق المنتشي حتى النخاع الذي يرمي عقاله وغترته وطربوشه اندماجاً في نشوة كل الصباحات المشرقة التي تأتي لنا بالمدهش والمفاجئ وغير المنتظر. فكلّما طلعَ علينا صباح مضيء نسمع من قطر حكايات ألفِ سحرٍ وسحر وألف حلمٍ وحلم وألف ليلة وليلة بل وألف مونديال ومونديال. وإذا كانت العرب تقول إن الشاعرَ هو أقربُ الكائناتِ إلى فجر الأشياء. فإنني أقول يا سمو الأمير إنك أصبحت فجر الأحلام المستمرة البزوغ، والغارقة في واقع الولادة.
* أكتب لك من فراغ حرّاق بعد أن شاهدت وعايشت على مدى أربعة عقود من الزمن تآكل أحلامنا العربية، وتقلص محيطها واختناقها في خندق شرف الوصول لكأس العالم، وأصبحنا نعيش رؤية ضبابية في شرق أوسط مترهّل عجوز مدكوك بالتعاسات والضجر، يولد فيه الأطفال بنصف طفولة ونصف كوابيس وأحلام وعنتريات وفرد عضلات وثرثرة وإنشائيات لوّثت رؤيتنا لكل شيء، وأصبحت الأكثريّة الساحقة من الشعوب العربية غارقة في بكائيات لما مضى ورثائيات للواقع وسوداوية لما هو قادم.
* قليلة هي الأيام التي استيقظت فيها مع شعوب هذه الأمّة منتعشا من الفرح. كان هناك إجماع في المحيط العربي أن لا أحد يجرؤ على التخطيط. وبلغ الزعم حدّ اعتبار هذا الأمر قَدَراً لا يُردّ، وكأننا الأمة الوحيدة التي خلقت من ضعف وطار منها الصيت فعاشت في عدم. لنكتشف مع فوز قطر بتنظيم مونديال كرة القدم عام 2022 ومونديال كرة اليد عام 2015 وما سيأتي من مونديالات أن التخطيط العلمي المدروس الذي تسير عليه رياضتنا العربية لم يكن إلا ضربا من الودع..!
* أكتب مندهشا من حجم التغيير والدافع والطموح المتجدد الذي يكبر يوما بعد يوم حتى أرهقتنا المفاجآت السعيدة والفاتنة والمضيئة التي تهطل هادرة من قطر المطر، فقد تغير الوجه الشاحب الذي شاهدته في زيارتي الأولى للدوحة عام 1418هـ إلى فضاءات لا يمكن استيعابها أو اللحاق بها، يومها جئت على موعد مع الملاكم العالمي السابق نسيم حميد بحثا عن خبطة صحفية لأكتشف أن سر الزيارة (دعوة خاصة من مقامكم الكريم). لم أستغرب المفاجأة فذاكرتي مازالت تحمل لسموكم فضل تبني مجلة (الصقر) التي أعادت صياغة عقلياتنا ومفرداتنا وثقافتنا الرياضية والتي أبكاني توقفها عندما شيعت الى مثواها الأخير،
ولم أستغرب ما أسره لي أستاذي وأخي سعد بن محمد الرميحي وهو يعانقني مودعا: انتظر مفاجآت قادمة. ليبزغ فجر قناة الجزيرة الرياضية التي نلتهمها بشغف لا لمضمونها الرائع فحسب، بل لأسلوبها النابض واشتداد عصبها وتدفّق مفاجآتها السعيدة تدفّق الشلّال، فغسلت من ذاكرتنا مسحة النعاس التي تغشى أكثر القنوات الرياضية العربية، لكنني لم أصل في حجم تفاؤلي الى مجرد تخيل أن قطر يمكن أن تجمح من الأقلّ إلى الأكثر نحو الذروة في لمح البصر.
* يا سمو الأمير.. إن أقوى أسباب الفشل الحضاري العربي تعود إلى ضعف الإرادة وخور الهمة وأول مقوماته امتلاك الرؤية السياسية والحضارية وإرادة النهوض والثقة في النفس، وكلما تعمّقنا في دراسة قوانين التاريخ اتضحت صورة المستقبل الذي نصنعه بأيدينا وسواعدنا وعقولنا فنحن في نهاية المطاف نتاج لتاريخنا بسلبياته وإيجابياته، انتصاراته وانكساراته، صعوده وهبوطه، وتبقى القوة المعبرة عن حيوية التاريخ تكمن في أولئك الذين يمارسون أدوارهم في المراحل التاريخية المتعاقبة بوعي وحرية وإرادة واختيار دون أن يكتفوا بمراقبة عملية التطور وانتظار تحققها التلقائي تحت علّة ما يسمى بحتمية التاريخ وهذا ما فعلته قطر.
* لقد جاءت الإمارة الصغيرة في حجمها والكبيرة بطموح رجالها من بعيد بمعجزة تشبق شبقا فلم نعد بحاجة لتعلم دروس النهضة بالعودة إلى بطون التاريخ لمعرفة مقومات النهضة والتقدم الحضاري كما جاءت في مقدمة ابن خلدون، لأن أمامنا تجارب حاضرة في نهوض الأمم المعاصرة في القارة الأم تدفعنا للقفز والاستنساخ والمبادأة فبلد كاليابان تم تحطيم إرادته السياسية وإلحاق هزيمة عسكرية مدوية به وإجباره على الاستسلام وارتكاب جريمة إنسانية وحضارية وأخلاقية هائلة بحقه عبر الهجوم على مدينتي هيروشيما ونغازاكي بالقنابل الذرية لأول مرة في تاريخ العالم والبشرية، ولا يمتلك أي
ثروات طبيعية أو مواد خام فوق أراضيه، ورغم ذلك نجحت في أن تصبح في غضون أربعة عقود أكبر دولة اقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
* ولدينا ماليزيا البلد الإسلامي الذي كادت تنفجر فيه حرب أهلية في نهاية الستينيات وكان يعاني من كل أمراض التخلف في "العالم الثالث" من الفساد والصراعات الإثنية وسوء توظيف الموارد واستثمارها، ولكنه أصبح خلال ربع قرن نمرا آسيويا ناهضا بسبب الرؤية الحضارية وإرادة للنهضة والتقدم. وهذه الصين التي استقلت في نفس الفترة التي استقلت فيها البلدان العربية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، أي بعد انتصار الثورة الماوية، لتتحول بإرادة الإصلاح الاقتصادي من مجرد الاكتفاء الذاتي خلال عقدين الى أكبر بلد منتج ومصدر للبضائع الاستهلاكية والمنتجات الاستثمارية والإنشائية في العالم.
* إن ما ينقصنا كعرب هو توافر إرادة النهضة وامتلاك مشروع نهوض حضاري شبيه بما فعلته قطر بفكرة استضافة مونديال العالم الذي يدور حول كرة تشكل الهوى الأوسع احتفالا للعيون التي تنظر بسعادة للجسد الذي يلعب.
* وقد يتساءل مستظرف، كل هذا الاحتفاء من أجل كرة قدم. أقول له: نعم بملء السمع والبصر، فقد أصبحت كرة القدم علامة رئيسية من علامات الهوية الجماعية، بل أصبح أسلوب اللعب هو طريقة فـي الحياة، يعكس الوجه الخاص لكل مجتمع ويؤكد حقه فـي التمييز.
* ولو عدنا لقراءة التاريخ لوجدنا في معالم الصورة ما هو أبعد من ذلك، فعندما ضرب زلزال مدمر جمهورية تشيلي عام 1962 قبيل أشهر قليلة من استضافة كأس العالم، ناشد رئيسها كارلوس ديتبورن المجتمع الدولي عدم سحب التنظيم من بلاده بقوله: لأننا لم نعد نملك شيئا، فنحن في حاجة الى نهائيات كأس العالم. والحال نفسه انطبق على جنوب إفريقيا التي عانت من رواسب وبقايا نظام بريتوريا العنصري، ولم يوحدها بشكل حقيقي كشعب ودولة إلا المونديال الأخير، فنجحت في تخطي هذه الحواجز العنصرية والنفسية وحولتها الى أدوات تماسك وعلاج ناجع لمجتمع ظل يعاني من معدل الإجرام المرتفع وغياب الأمن وتنامي القبلية البغيضة.
* لقد ظلت كرة القدم تفعل كل ما هو ممكن لتمنح السعادة وتحافظ على حياتها رغم كل المحن. وربما كان هذا هو السبب فـي بقائها مدهشة على الدوام، ففي عام 1934 وفيما جرى تنصيب هتلر فوهرراً للرايخ الثالث، افتتح موسوليني فـي إيطاليا بطولة العالم الثانية وملصقات البطولة تعرض رسماً لهرقل وهو يرفع يده بالتحية الفاشية وعند قدميه كرة، ومازالت كرة القدم رغم كل أزماتها في ايطاليا تعتبر واحدة من أهم عشر صناعات. وفي نفس العام بينما كانت بوليفـيا وباراغواي تتذابحان فـي حرب التشاكو، متنازعتين قطعة أرض مقفرة على الخريطة، شكّل الصليب الأحمر فـي باراغواي فريق كرة قدم، لعب فـي عدد من مدن الأرجنتين وأورغواي وجمع ما يكفـي من المال لمعالجة جرحى الجانبين فـي ميدان المعركة.
* وقد كانت كرة القدم بالنسبة للنازيين أيضاً مسألة دولة بينما اعتبرها الروس سلاحا للدفاع عن كرامتهم ففي أوكرانيا نصب يذكّر بلاعبي فريق دينامو كييف الذين اقترفوا فـي أوج الاحتلال الألماني عام 1942م حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر فـي الملعب المحلي، فأُعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب، عند حافة هاوية، بعد انتهاء المباراة مباشرة.
* يا سمو الأمير.. لم يكن أكثر المتفائلين العرب يحلم باليوم الذي نفرض فيه التماثل مع الدول الكبرى فـي كرة القدم وفـي كل شيء، لولا قطر التي خرجت من سباق المونديال ممسكة بزمام الأسطورة واحترام المجتمع الدولي لبلد عربي أصبح قادرا على جلاء خصائص الأشياء ومنحها الحضور والقوة.
* ما يحدث في قطر استفزاز غير مسبوق لاقتصاديات وخطط وسياسات الدول العربية المستقبلية، بل هي تحريك لكل الدماء العربية الراكدة وتحريض للأجيال الجديدة على العودة إلى التفكير والبحث عن منجز والثقة في قدراتنا والاهتداء إلى حقل لم يعد مجهولاً.
* عشر سنوات من الانتظار الجميل ستشكل جيلا جديدا يتطلع بفرح ليكون قاعدة انبعاث لأمة كان يمكن لها أن تنتظر قرنا من الزمن لكي تغامر بهذه الخطوة، وكما قال البرتو أغويلاني الكاتب الأوروغوياني الشهير ومؤلف الكتاب الأشهر (كرة القدم في الشمس والظل): أن لدى العرب ملاعب عالمية لكنها بلا رائحة تاريخ لأنها لم تشهد مباراة
واحدة من كأس العالم، وقد جاءتنا قطر اليوم بأحد عشر استادا عالميا سوف تتشبع من التاريخ عام 2022 م.
* في ذلك اليوم سيتمنى لك العالم عمرا مديدا وهم يحتفلون بك في عامك السبعين، وسأكون حاضرا على أبواب الســتين مع أبنائي لنحتفي بـ(درة الشرق)، ولندشن معها شرقا أوسطيا جديدا.
بوركت، وبوركت قطر، وبورك كل من معك.